بيوتنا الجبليّة الفارغة إن حكت
إنّ الذي يلازم بيته الجبليّ، على مدار العام، لا يشعر بلوعة البيوت التي يغادرها أصحابها، خلال فصل الخريف، وبمدى افتقادها لأهلها، ولقاطنيها، طوال فصل الهطولات المطريّة، والثلجيّة. حين تجلد الرياح الشماليّة وجوه البيوت الخالية من الدفء الإنسانيّ بصقيعها، وهي تغرق في العتمة، وتطبق عليها الوحشة، ويهجم الحزن، ويبتلعها الصمت في سكينته العميقة. حين تحمل كلّ ثقل الشتاء على أكتافها، ويسكنها القلق من جنون العواصف، وتختنق ميازيبها بفائض الأمطار الجارية فيها، وتبيّض السطوح، ويشيب القرميد .
يظلّ المقيم في الجرد حيث تستوجب ظروف معيشته، مشدودًا نحو المكان المزروع فيه عينه، رغم خلوه من غالبية ساكنيه، منتظرًا أن تمرّ الشهور بسرعة، على غرار أسلافه الأقدمين، ويحلّ ربيع الأرض. بينما البيوت غير المتساوية أساسًا في قدرتها على الوقوف في وجه العناصر، تصطكّ رِكاب الضعيفة منها، والمتهالكة بفعل مرور الزمن، وهي تجابه الرعد كلّما قصف، والبرق حيثما التمع، والسيول أينما جرفت كلّ ما يعترض سبيلها. وأنت، لو صدف وتوجّهت إلى الجبل، في الأثناء، ومررت أمام هذه المنازل، لابتسم لك كلّ ما في خارجها، فيما هي يُداخلها الأسى، والكمد، والكآبة .
وهي، أي بيوت الجبل، لو قُدّر لها أن تعلم أنّ العزلة والتوحّد قدرها، ما امتد الشتاء، وبعض من الربيع أوّل، مذ كتب لها الولادة حيث ارتفعت مداميكها، لما ضاقت ذرعًا بكلّ هذا المقدار من السكينة الثقيلة الوطء، وبكلّ قطرة مطر .
مع كبير علمنا نحن، بأنّه لو قدّر لحجارها أن تحكي كلّما دقّ الهواء على أبوابها، وتمسح على نوافذها المتكمّشة من البرد، لضجّت هامسة بمواقيت ارتشافنا لقهوتنا، ولركاوينا الجوّالة، على شرفاتنا والسطيحات، وبمواعيد ترقّبنا لشموس المغارب، ولليالي التي يدور فيها القمر، ويستدير، بدرًا، حولها. ولاسترجعت صوت فيروز وهي تصغي معنا إليه متردّدًا في داخلها، وداخلنا، وعياط الأحفاد الكاسر لهدأتها، بالنبرات الأحبّ على قلوبنا .
ومع أنّه لم يُعطَ لهذه المساكن أن تفصح عمّا بها، فيخيّل لكلّ من تقدّر له العودة إليها، ربيعًا، أنّها لا تكتم عنا فرحها بلقائنا، ونحن نفتح صدرها، وبدنها، للشمس. وأنّها تستعيد طمأنينتها للحال .
كما يتراءى له أنّها تقف، للحظات، بكاملها عند العتبة، وتبسط ذراعيها مرحّبة بقدومنا الذي يكسر عزلتها، ويشفيها من حزنها.











